المكتبة النصية
فقه وأحكام
شفاء العليل شرح منار السبيل
مقدمة للشيخ: عبد الله بن جبرين حفظه الله
المبحث الرابع: في عمل الفقهاء في توسعة المسائل
قد يقع قارئ كتب المذهب في حيرة، عندما يرى تعدد الروايات أو الأقوال في كل مسألة غالبا، دون تصريح بما هو الأرجح والمختار، وذلك أن المؤلفين في الفقه قد تنوّعوا في كتاباتهم، فمنهم من يقتصر على قول واحد يراه أولى وأرجح في نظره، كما فعل الخرقي اسم> في مختصره، و أبو الخطاب اسم> في الهداية، و أبو البركات اسم> في المحرر وغيرهم، فلا يذكرون الخلاف إلا نادرا، ومنهم من يذكر قولين أو أكثر ويكتفي بسرد الأقوال أو الروايات، دون تعليل أو دليل، وهناك آخرون ينقحون المسائل، ويقتصرون على المختار، مع بيان وجه الصواب فيه، وإن من أبرز هؤلاء شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية اسم> -رحمه الله- فهو وإن كان من علماء الحنابلة لا يتقيد بمذهب خاص، بل يختار القول الراجح، ويؤيد اختياره بالأدلة والتوجيهات المقنعة، بحيث لا يدع مقالا لقائل، وقد تبعه في اختياراته تلميذه ابن قيم الجوزية اسم> -رحمه الله- وزاد في نصرة شيخه وتوجيه اختياراته بما لا مزيد عليه، كما في مؤلفاته المشهورة، كزاد المعاد، وإعلام الموقعين، وغيرهما.
وإن كان الترجيح مختلفا بين الأصحاب في مسائل متجاذبة المأخذ، فالاعتماد في معرفة المذهب على ما قاله المصنف -يعني ابن قدامة اسم> - والمجد، والشارح، وصاحب الفروع، والقواعد الفقهية، والوجيز، والرعايتين، والنظم، والخلاصة، والشيخ تقي الدين اسم> و ابن عبدوس اسم> في تذكرته، فإنهم هذبوا كلام المتقدمين، ومهدوا قواعد المذهب بيقين، فإن اختلفوا فالمذهب ما قدمه صاحب الفروع فيه في معظم مسائله، فإن أطلق الخلاف أو كان من غير المعظم الذي قدمه فالمذهب ما اتفق عليه الشيخان، أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياراته، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو الغالب، فإن اختلفا فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد الفقهية، أو الشيخ تقي الدين اسم> وإلا فالمصنف لاسيما إن كان في الكافي، ثم المجد، فإن لم يكن لهما ولا لأحدهما في ذلك تصحيح، فصاحب القواعد الفقهية، ثم صاحب الوجيز، ثم صاحب الرعايتين، فإن اختلفا فالكبرى ثم الناظم، ثم صاحب الخلاصة، ثم تذكرة ابن عبدوس اسم> إلخ.
وقد طلب منه أن يبين ما أشكل من كون بعض الكتب يذكر فيها روايتان، أو وجهان، ولا يذكر الأرجح والأصح كما في الكافي، والمحرر، والمقنع، والهداية، فلا ندري بأيهما نأخذ، فأجاب -رحمه الله- أما هذه الكتب فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى مثل التعليق للقاضي، والانتصار لأبي الخطاب اسم> وعمد الأدلة لابن عقيل اسم> وتعليق القاضي يعقوب البرزبيني اسم> وغير ذلك من الكتب التي يذكر فيها مسائل الخلاف يذكر فيها الراجح... ومما يعرف منه ذلك كتاب المغني للشيخ أبي محمد اسم> وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات اسم> ومن كان خبيرا بأصول أحمد اسم> ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، و أحمد اسم> كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين لهم بإحسان؛ ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا، كما يوجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى. إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
وهذا كما أنه إذ تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئا، بل ما جرى به القدر أقروه ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين، فأما الترجيح بمجرد الاختيار فليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، لكن قال طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: إنه يخير بين المفتين المختلفين، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم... لكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين، مع حسن قصده، وعمارة قلبه بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والظواهر، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف اهـ.
وكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة الأربعة بلا ريب، فقد اتفقوا على أصول الأحكام، فإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه، خرجه على قواعد إمامه فهو مذهبه، وقد صرحوا بأن النصوص الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما فهموا من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يقال: قول هذا صواب دون قول هذا إلا بحجة، وأقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، وتذكر وتورد في المعارضات والالتباس.