بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله مسألة الرؤية أن المؤمنين يَرون الله تعالى في الآخرة بأبصارهم، رؤية حقيقية بالأبصار يرونه بأبصارهم وفي الجنة يزورونه، ويكلمهم بكلام يسمعونه، ويكلمونه استدل على ذلك بهذه الآيات قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ كُتِبت الكلمة الأولى بالضاد معناه أنها ناضرة يعني مشرقة؛ النضرة هي البهاء والجمال قال تعالى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي بهاء وجمالا وسرورا إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ كتبت بالظاء أي تنظر إلى ربها عِيانا.
واستدل أيضا بقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وهم الكفار يقول تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي ذنوبهم طمست قلوبهم كلا إنهم عن ربهم يومئذ يعني في الآخرة لمحجوبون ممنوعون أن يروه.
يقول: لما حجب أولئك وهم الكفار في حال السخط، دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضا أنهم لا يكونون محجوبين، وإلا لم يكن بينهما فرق لو كان المؤمنون لا يرونه لكانوا أيضا محجوبين عن رؤيته، فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته .
وكان في ليلة أربعة عشر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته أي لا يلحقكم ضيم يعني: ضرر، وفي رواية لا تضامون يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض بل ترونه في أماكنكم لا تُضامون في رؤيته.
قوله: كما ترون هذا القمر، يقول: شبَّه الرؤية بالرؤية يعني ترونه رؤية حقيقية، وليس تشبيها للمرئي بالمرئي يعني: ليس تشبيها لله تعالى بالقمر، فإن الله تعالى لا شبيه له، ولا نظير له، لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فهذا الفصل يتعلق ...
وذلك لضعف البشر عن أن يثبت أمام رؤية الله تعالى وأمام النظر إليه فهذا هو القول الصحيح ذهب بعض الصوفية ونحوهم إلى إمكان رؤيتهم لله، ويقولون: إن الأبدال يرون الله أو أن النجباء والنقباء يمكنهم أن يرون ربهم في الدنيا، فخالفوا بذلك ما دلت عليه الأدلة ..وذهب بعض السلف.
روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء وجعل ذلك من خصائصه والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه لما أسري به وذلك لما في صحيح مسلم عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه وفي رواية: رأيت نورًا أي كيف أراه، وكيف أتمكن إنما رأيت نورًا، وهذا النور هو الذي يحتجب الله تعالى به.
ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة ربه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
فجعل أو أخبر بأن لله تعالى حجابا، أنه احتجب بهذا النور، وأنه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه؛ في الحديث أن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل حجابه النور فإذا كان كذلك، فإن البشر لا يتمكنون من رؤية الله في الدنيا.
وكذلك ذكرنا أن موسى لم يتمكن من رؤية الله لما اندك الجبل صَعِق موسى وقال: لما صعِق موسى في رؤيته للجبل خرَّ موسى صعِقا، ثم قال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك، وأن البشر لا يقدرون على أن يصلوا إلى معرفتك، وما يقوى رؤيتك معرفة كيفية ذاتك رؤيتك، ولذلك صعق فدل على أنه لا يمكن أن يراه أحد في الدنيا.
وأما في الدار الآخرة فإن الله تعالى يقوي المؤمنين، ويتمكنون من رؤيته وأما الكفار فإن الله تعالى ذكر أنهم محجوبون عن ربهم لا يمكن أن يروه وأن حجابهم يُعتبر عذابًا لهم.
لكن قد ورد حديثً يُفهم منه أنهم قد يرونه في الآخرة في عرصات القيامة، وردت أحاديث كثيرة في أن الله تعالى يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده.
فذكر في الحديث حديث الشفاعة يقول: إذا جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم يقول فأذهب فأدخل على ربي فإذا رأيته خررت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل تُسمع وسل تُعط واشفع تشفع .
فأفاد بأنه يرى ربه في الآخرة، فإذا رأيت ربي وفي حديث آخر ذكر أنه في يوم القيامة يُقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى في صورة غير الذي يعرفون فيقولوا: أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه فيكشف عن ساق فيخر من كان يسجد لله طوعا واختيارا، وأما الذين لا يسجدون طوعا واختيار، فإنهم يمنعون من السجود كلما أراد أحد أن يسجد خر على قفاه .
ثم يُعطون أنوارا يسيرون بها فإذا ساروا قليلا انطفأ نور المنافقين فيُقال لهم ارجعوا إذا قالوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ينادونهم يعني أن المنافقين ينادون أهل الجنة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى .
ففي هذا أنهم يرون الله يعني المنافقون والمؤمنون في عرصات القيامة، ولعل ذلك رؤية خاصة ليست هي الرؤية التي تكون في الجنة، يعني: أنها رؤية خاصة، وإذا كان كذلك، فإن الكلام على الرؤية في الجنة، والذي ورد فيه الأدلة وذكر العلماء عليه الأدلة الواضحة التي تدل على أن القرآن كلام الله على أن القرآن الذي هو كلام الله قد أوضح الدلالة، وبينها فلم يبقَ شبهة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى نحو سبع آيات من القرآن تدل على إثبات الرؤية، وبين دلالتها، وبدأها بقصة موسى وذلك لأن المعتزلة ينكرون رؤية الله حقيقة فيقولون: لا يمكن أن يرى لأنهم في زعمهم أن الله تعالى ليس في جهة فلذلك يقولون: يلزم من إثبات الرؤية الجهة، فيلزم أن يكون في حيز إلى آخر ما يعبرون به، فأنكروا رؤية الله تعالى في الآخرة وبالغوا في إنكارها.
وأما الأشاعرة فلما كانوا يتظاهرون بأنهم من أهل السنة وأنهم على معتقد أو على مذهب الأئمة لم يجدوا بُدًا من الاعتراف برؤية الله تعالى، ولكن لم يثبتوا رؤية حقيقية، وإنما جعلوا الرؤية مكاشفات يعني: أنهم يكشف لهم عن قلوبهم مكاشفات يكون من آثارها كأنهم يرون الله تعالى، فينكرون الرؤية البصرية التي هي رؤية الله تعالى بأبصارهم، فإن ذلك في زعمهم محال؛ لأنه يستلزم خلاف ما يعتقدونه من أن الله تعالى ليس في جهة كما يعبرون؛ فاتفقوا مع المعتزلة على نفي الرؤية حقيقية، وأثبتوا رؤية خيالية.
وبعد ذلك المعتزلة لا بد أن لهم شبهات يشبهون بها على من يكون معهم على هذا المعتقد.
ذكروا من أدلتهم هذه القصة عن موسى لما قال الله له لَنْ تَرَانِي فقالوا لَنْ تَرَانِي يعني دليل على أن موسى لا يراه لا عاجلا، ولا آجلا لَنْ تَرَانِي هذه شبهة لهم فنقول لهم: هل أنتم أعلم من موسى موسى الذي كلمه الله تعالى تكليما يسأل ربه، ويقول: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أليس ذلك دليلا على أنه يعتقد إمكان رؤية الله تعالى.
لستم أعلم بالله تعالى من عبده ورسوله الذي كلمه الله تعالى تكليما وأسمعه كلامه، ثم نقول لهم: إن الله تعالى ما عاتبه ولا أنكر عليه إنكارا شديدا كما عاتب نوحًا لما فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فأنكر عليه بقوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .
أنكر الله على نوح لما سأل نجاة ابنه ولم ينكر على موسى لما قال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ بل قال: لن تراني أي في الدنيا لا تقدر على رؤيتي، ولا تثبت أمام رؤيتي وذلك لضعف بنية البشر في هذه الدنيا؛ فلا يقدرون على الثبوت أمام جلال الله عز وجل، ثم من الأدلة على إمكان الرؤية أن الله تعالى قال: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي وما أظن أن الجبل في الإمكان أن يستقر، وقد علق الله تعالى رؤية موسى على استقرار الجبل، واستقراره ممكن، فدل على إمكان الرؤية، فإنه صريح في أنه سوف يراه، فسوف تراني إن استقر الجبل.
ثم ذكر الله أنه تجلى للجبل؛ تجلى للجبل وإذا جاز أن الله يتجلى للجبل جاز أن يتجلى لعباده يوم القيامة حتى يروه عيانًا بأبصارهم في الجنة، وفي الدار الآخرة، فإن هذا صريح أنه تجلى، والمعتزلة يُنكرون أن يكون الله يتجلى لأحد؛ لأنهم ينكرون أن ربهم في جهة، تعالى الله عن قولهم.
وأهل السنة يعتقدون أن الله تعالى بذاته فوق سماواته وأنه قريب من عباده.
ثم يقول العلماء: إن كلمة لن في قوله لَنْ تَرَانِي لا تدل على النفي المؤبد، ولهذا يقول ابن مالك في الألفية:
ومن رأى النفي بلـن مؤبـدا | فقوله اردد وســواه أيـــدا |