موقع سماحة الشيخ بن جبرين-رحمه الله..
20- إثبات صفة الاستواء
20- إثبات صفة الاستواء
عدد المشاهدات
()
[وقوله: رسم> الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قرآن> رسم> رسم> ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> في سبعة مواضع:
في سورة الأعراف، قوله: رسم>
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [الأعراف: 54]. آية> وقال في سورة يونس -عليه السلام- رسم>
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [يونس: 3]. آية> وقال في سورة الرعد: رسم>
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [الرعد: 2]. آية> وقال في سورة طه: رسم>
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قرآن> رسم> [طه: 5]. آية> وقال في سورة الفرقان: رسم>
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ قرآن> رسم> [الفرقان: 59]. آية> وقال في سورة الم السجدة: رسم>
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [السجدة: 4]. آية> وقال في سورة الحديد: رسم>
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [الحديد: 3]. آية> ].
الشرح
* قوله:
(وقوله: رسم> الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قرآن> رسم> ).
من عقيدة أهل السنة إثبات صفة العلو، وأن الله عليٌّ بجميع أنواع العلو.
وأنواع العلو ثلاثة: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر.
* فعلو القهر: في مثل قوله: رسم>
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قرآن> رسم> [الأعراف: 127]. آية> ومثل قوله: رسم>
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قرآن> رسم> [الأنعام: 18]. آية> فنقول مثلا: الملك عال على أهل البلد، بمعنى قاهر لهم، فالعلو لله بمعنى القهر، فهو علي بمعنى قاهر.
*وعلو القدر، أي: المنزلة بين الشيئين، إذا كان أحدهما أرفع قدرا وأعلى في النفوس، فإنه يسمى أيضا عاليا، تقول مثلا: الرجال أعلى من النساء يعني: قدرا، وتقول: الذهب أعلى من الفضة يعني: قدرا، فكل شيء أرفع قدرا من غيره، فإنه يصلح أن يوصف بالعلو، فإذا قلت مثلا: اللحم أعلى من التمر يعني: أعلى قدرا.
فالله تعالى له العلو، بمعنى علو القدر، وله العلو بمعنى علو القهر، وعلو الذات.
والأدلة على إثبات صفة العلو كثيرة، قد تصل أفرادها إلى المئات أو تزيد على الألف، ولكن تنحصر في أنواع، حصرها ابن القيم في نونيته في واحد وعشرين نوعا، يعني: أنواع الأدلة التي تدل على إثبات صفة العلو، وتحت كل نوع أفراد أدلة كثيرة.
فمن الأنواع مثلا: التصريح بالاستواء، كما في هذه الآيات.
ومن الأنواع: التصريح بالعلو، كقوله تعالى: رسم>
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ قرآن> رسم> [البقرة:255 ]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بالفوقية، كقوله تعالى: رسم>
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قرآن> رسم> [النحل: 50]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بالعروج؛ عروج الأشياء إليه، كقوله: رسم>
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [المعارج: 4]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بالصعود، كقوله: رسم>
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قرآن> رسم> [فاطر: 10]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بإنزال الأشياء منه، كقوله تعالى: رسم>
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ قرآن> رسم> [الأنعام: 114]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بذكر السماء، كقوله تعالى: رسم>
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> [الملك: 16]. آية>
ومن الأنواع: التصريح بالرفع، كقوله تعالى: رسم>
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [النساء: 158]. آية>
ومن الأنواع: تصريح كل الخلق بعلو الله، كقول فرعون: رسم>
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى قرآن> رسم> [غافر: 36، 37]. آية> كما سيأتي.
ومن الأنواع: ذكر اتفاق الرسل.
ومن الأنواع: الفطرة.
ومن الأنواع: الإجماع، إجماع أهل العلم.
والحاصل أنها تصل إلى واحد وعشرين نوعا، لما ذكرها ابن القيم اسم> بدأها بآيات الاستواء، وذكر أنها سبع في نونيته
منهـا استواء الرب فوق العرش في | ســبع أتــت فـي محـكم القـرآن |
وكــذلك اطــردت بلا لام ولـو | كــانت بمعنـــى اللام في الأذهان |
لأتـت بها في موضع كي يحمل الـ | بــاقي عليهـا بالبيــان الثـاني |
يقول -رحمه الله- ذكر الله الاستواء في سبع تقيدت بالحصر، واطردت وتتابعت كلها بلا لام، كلها استوى، ولو كانت بمعنى اللام في الأذهان لأتت بها في موضع كي يحمل الباقي عليها.
لو أتت في موضع واحد استولى بزيادة لام، لقالوا: يحمل هذا على هذا.
يحمل قوله استوى على قوله استولى، فيجعل الكل من باب واحد، لكن لما ذكرت بلفظ استوى في جميع المواضع دل على أنها ليست بمعنى استولى، وأفاد أن هذه هي أقوى الأدلة على مسألة العلو، ولما كانت أصرح الأدلة كانت أكبر شيء على الجهمية، حتى ذكروا أن جهما اسم> كان يتمنى أن يحكها من مصاحف المسلمين، يقول: لو أقدر لحككت هذه الآية:
رسم>
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قرآن> رسم> [طه: 5]. آية> فأهل السنة تقبلوها كما جاءت.
وذكر ابن جرير اسم> في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى: رسم>
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ قرآن> رسم> [البقرة: 29]. آية>
ذكر أن كلمة استوى عند العرب لها عدة معان أحدها: التمام، ومنه قوله تعالى: رسم>
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى قرآن> رسم> [القصص: 14]. آية> يعني: تم وكمل.
ويستعمل بمعنى انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال: قد استوى الرجل، وبمعنى استقامة ما كان به، وبمعنى العلو والارتفاع، واختار هذا القول عند هذه الآية لا سيما إذا قيد بكلمة على فإنه لا يفهم منه إلا العلو، وكذلك إذا قيد أيضا بإلى، رسم>
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ قرآن> رسم> يعني: ارتفع إليها وعلى.
هكذا هو معنى الكلم، استوى، يعني: علا وارتفع.
وذكر ابن القيم من أدلة إثبات العلو الواحد والعشرين، إجماع أهل العلم، وأهل السنة، وهو الدليل السادس عشر من تلك الأدلة؛ حيث يقول
هذا وســادس عشرها إجماع أهـ | ل العلـم أعنـي حجــة الأزمان |
مـن كـل صـاحب سنة شهدت له | أهـل الحـديث وعسكر القرآن |
لا عـبرة بمخــالف لهـــم ولو | كانوا عديد الشــاء والبعران |
ثم ذكر قولهم في الاستواء، أنهم فسروا الاستواء بعبارات، فقال
فلهـــم عبــارات عليهـا أربــع | قــد حـــصلت للفــارس الطعـان |
وهــي اسـتقر وقـد علا وكـذلك ار | تفــع الـذي مـا فيـه مـن نكـران |
وكـذاك قـد صعـد الـذي هـو رابـع | وأبو عبيــدة صـاحب الشيبـاني |
يختــار هـذا القـول فـي تفسـيره | أدرى مـــن الجـــهمي بــالقرآن |
والأشــعري يقــول تفسـير اسـتوى | بحقيقــة اســتولى مــن البهتـان |
هذه هي تفاسير أهل السنة الأربعة، أكثرهم يقول: استوى على العرش، أي: استقر عليه، ويقولون: هذه لغة القرآن، قال تعالى: رسم>
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ قرآن> رسم> [هود: 44]. آية> يعني: سفينة نوح اسم> استوت على الجودي، يعني : استقرت على الجودي.
وقال تعالى في تشبيه المؤمنين: رسم>
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ قرآن> رسم> [الفتح: 29]. آية> استوى يعني: ارتفع على سوقه، أي: الزرع.
فجاء الاستواء بمعنى الاستعلاء، وجاء بمعنى الاستقرار.
ومما ورد أيضا بمعنى الاستقرار قوله تعالى لنوح اسم> رسم>
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ قرآن> رسم> [المؤمنون: 28]. آية> استويت أي: ارتفعت واستقررت على الفلك، فجاء الاستواء إذا كان مقرونا بحرف على بمعنى العلو وبمعنى الاستقرار، وأبو عبيدة اسم> صاحب الشيباني وهو معمر بن المثنى اسم> صاحب الإمام أحمد اسم> من علماء اللغة، يقول بتفسير استوى بمعنى صعد، وهو أدرى من الجهمي بالقرآن.
وذكروا أن العرب تستعمل استوى بمعنى ارتفع، وأن أحد المشهورين بالمعرفة كان في سطع بيته، فطرقه أناس فأطل عليهم، وقال: استووا إلي، بمعنى ارتفعوا، واصعدوا إلي، هكذا معنى كلمة استوى عند العرب، ولا تعرف العرب استوى إلا بهذه المعاني.
أما الجهمية والمنكرون للاستواء من معتزلة وأشاعرة ونحوهم ممن ينكر العلو، فإن بعضهم توقف، وقال: نقول استوى استواء يليق بجلاله مع اعتقادنا أنها لا تفيد العلو، وأنها لا تدل على علو الذات، وقلنا: لا يفيدكم إذا قرأتم آية كأنها كلام أعجمي لا فائدة من قراءتها، فإن الله ما أنزل القرآن إلا ليهتدى به، ولتعرف دلالته وليتدبر.
وآخرون قالوا: لا بد أن نتأولها، ولهم فيها تأويلان:
التأويل الأول: تأويل كلمة استوى بمعنى استولى.
والتأويل الثاني: تأويل العرش بمعنى الملك.
الأولون قالوا: استولى على العرش، والآخرون قالوا: استوى على الملك، أي: ارتفع على الملك، ويكون الارتفاع ارتفاعا معنويا.
والجواب عن الأول: قولهم: استوى، أي: استولى، إنه قول بعيد لا دليل عليه، وقد سئل علماء اللغة، هل العرب تستعمل استوى بمعنى استولى؟ فقالوا: لا، هذا مما لا تعرفه العرب، هذا خارج عن لسان العرب، لم تأت كلمة استوى بمعنى استولى أبدا في لسان العرب.
والجهمية ونحوهم استدلوا ببيت منسوب إلى الأخطل اسم> وهو قوله:
قد استوى بشر على العراق | مـن غير سيف أو دم مهراق |
ونقول:
الجواب: أولا: أن هذا البيت مكذوب ولم يعرف في شيء من دواوين المسلمين، ولم يعرف الأخطل اسم> هذا البيت، ولم ينقله الذين نقلوا شعره.
وأنتم تردون الأحاديث الصريحة الصحيحة، وتقولون إنها آحاد، وتقبلون هذا البيت المنقول المكذوب، أفلا يكون آحادا؟، هذا جواب.
وجواب ثان: وهو أن الكلمة مولدة، استوى بمعنى استولى، كلمة مولدة إذا قدر أن الأخطل استعملها، فإنه من المولدين، أي: ليس من العرب البلغاء فلا يكون حجة.
وجواب ثالث: وهو أن الأخطل اسم> لا عبرة به، رغم كونه مولدا، فعقيدته سيئة، لكونه لم يسلم، بل بقي على نصرانيته، فلا يغتر بكلامه، وهو ممن أصر وبقي على النصرانية، ويدل على ذلك شعره، ومن شعره قوله:
ولســت بقـائم كـالعير يدعـو | قبيل الصبح حي علــى الفلاح |
ولسـت بصـائم رمضـان طوعا | ولسـت بـآكل لحـم الأضاحي |
ولسـت بســائق عيسـا بكورا | إلـى بطحــاء مكـة للنجـاح |
ولكــني سأشــربها شـمـولا | وأسـجد عنـد منبلج الصبـاح |
أي: يسجد للشمس، فإن كان باقيا على كفره، فكيف يتخذ عمدة، ويعتمد على شعره؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام في قصيدته اللامية:
قبحـا لمـن نبذ الكتاب وراءه | وإذا استدل يقول قال الأخطل |
يعني: كيف تتركون هذه الآيات والأحاديث الصريحة، وتعتمدون على بيت منحول، تقولون: قال الأخطل اسم>
وكذلك ابن القيم اسم> يقول في نونيته
ودليلهـم فـي ذاك بيت قاله | فيما يقال الأخطل النصراني |
وقوله: فيما يقال أي: أنه ليس بمحقق النسبة إليه.
وهناك جواب رابع -عن البيت- وهو أن الاستواء هنا على ظاهره، فاستوى بشر على العراق بمعنى ارتفع عليه، فلا يكون بمعنى استولى، والمعنى استوى على عرش العراق، يعني: جلس عليه وارتفع عليه، فيكون استوى هنا بمعنى ارتفع، فلا يكون فيه دليل على الاستيلاء.
ونرد عليهم أيضا بجوابين من حيث العموم: الأول: أن الاستيلاء عام والاستواء خاص، فالله تعالى ما ذكر أنه استوى إلا على العرش أما استيلاؤه فهو عام على كل شيء: مستول على السماوات، ومستول على المخلوقات، ومستول على الإنسان والحيوان ومستول على الأرض، ومستول على الجبال، فكيف تخصون الاستيلاء بالعرش، تقولون: إنه استولى على العرش؟!، هل يجوز عندكم أن نقول: استوى على الجبال، الرحمن على الجبال استوى؟ لم يقل الله ذلك.
هل يجوز أن نقول: الرحمن على الإنسان استوى؟، الرحمن على الأرض استوى؟، فهذا لا يجوز بالإجماع مع كونه مستوليا على كل شيء، فلو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء ما خص العرش، أي: لم يكن للعرش خصوصية، فإن استيلاء الله على كل شيء عام، أما الاستواء فإنه مخصوص بالعرش، فلماذا خص العرش؟، أليس الله مستوليا على المخلوقات كلها، لماذا خص العرش في السبع المواضع، لو كان استوى بمعنى استولى، لما خص العرش، ولقال مرة: ثم استوى على السماوات، ومرة ثم استوى على الأرض، ثم استوى على الإنسان، وهكذا، لكن لم يخص العرش إلا لأن الاستواء ليس هو الاستيلاء بل هو أمر زائد على الاستيلاء.
والجواب الثاني: أن الاستيلاء لا يكون إلا بعد ممانعة، والله تعالى ليس هناك من ينازعه ويمانعه، فلا يقال: فلان استولى على البلاد الفلانية، إلا إذا كان هناك من نازعه فتغلب عليه.
إذا كان هناك اثنان متنازعان على هذه الأرض، تغلب عليها أحدهما، فيقال: فلان استولى على البلاد الفلانية، يعني: بعد منازعة، فالاستيلاء إنما يكون بعد منازعة، والله لم يكن هناك من ينازعه، فدل هذا على فساد هذا التفسير من جهة العقل ومن جهة النقل.
فالحاصل أن لهم تأويلات في رد الآية: التأويل الأول: استوى بمعنى استولى، وعرفنا الجواب عنه.
بقي التأويل الثاني: أن العرش بمعنى الملك: استوى على العرش، يعني: استوى على الملك، وأنكروا أن يكون هناك عرش خاص لله، فقالوا: المراد بالعرش الملك.
والجواب: أن هذا خطأ، بل العرش في اللغة هو سرير الملك، والله تعالى وصف العرش بصفات خاصة، فدل على أنه ليس هو مجرد الملك فمن ذلك:
أولا: وصفه بالعظمة في قوله: رسم>
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قرآن> رسم> [النمل: 26]. آية> رسم>
حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قرآن> رسم> [التوبة: 129]. آية> فهذا وصفه بالعظمة.
ثانيا: وصفه بالكرم، وإن كان بعضهم يقول: الوصف للرحمن في قوله تعالى: رسم>
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ قرآن> رسم> [المؤمنون: 116]. آية>
ثالثا: وصفه بالمجد في قوله تعالى: رسم>
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ قرآن> رسم> [البروج: 15]. آية>
رابعا: وصفه بأنه محمول كما في قوله تعالى: رسم>
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قرآن> رسم> [الحاقة: 17]. آية>
دل على أنه شيء محمول، وكما في قوله تعالى: رسم>
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قرآن> رسم> [غافر: 7]. آية>
خامسا: وصفه بأنه محفوف لقوله تعالى: رسم>
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ قرآن> رسم> [الزمر: 75]. آية> فدل على أنه شيء محسوس ليس هو الملك.
سادسا: وصفه بإضافته إلى الله لقوله تعالى: رسم>
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ قرآن> رسم> [غافر: 15]. آية> يعني: رب العرش، ووصفه بالرفع هنا على ظاهره، ففي هذه الآيات وأمثالها كثير بيان أن العرش زائد على الملك.
وقد ذكر الله العرش بمعنى السرير، فالسرير يسمى عرشا، كعرش بلقيس في قوله: رسم>
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ قرآن> رسم> [النمل: 23]. آية> ثم قال: رسم>
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قرآن> رسم> [النمل: 38]. آية> ثم قال: رسم>
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا قرآن> رسم> [النمل: 41]. آية> ثم قال: رسم>
أَهَكَذَا عَرْشُكِ قرآن> رسم> [النمل: 42]. آية> فدل على أن العرش هو السرير، وإذا قلنا: إن العرش على حقيقته هو سرير الملك، فنقول: الله تعالى ذكر أن له العرش، ولكن لا نحيط بهذا العرش، فالذين أنكروا أن يكون هناك عرش حقيقي أبطلوا معنى هذه الآيات، ومنهم من اعترف بأن لله عرشا محمولا، ولكنهم لم يعترفوا بأن الله فوق العرش.
وبكل حال، فالعرش هو أعظم المخلوقات كما ورد، وقد ذكر الله أنه قبل المخلوقات، في قوله تعالى: رسم>
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قرآن> رسم> [هود: 7]. آية> فدل على أن عرشه موجود قبل خلق السماوات، وأنه على الماء، وسئل ابن عباس اسم> على أي شيء الماء، فقال: على متن الريح، والله تعالى قادر على أن يمسك المخلوقات كما يشاء بقدرته سبحانه وتعالى.
ولذلك اعترف الجمهور بأن هناك عرشا وأنه مخلوق، ووقع الاختلاف: هل العرش مخلوق قبل القلم أو القلم قبل العرش؟.
أشار إلى ذلك ابن القيم اسم> في نونيته بقوله
والنــاس مخـتلفون فـي القلـم الـذي | كـتب القضــاء بــه مــن الديــان |
هـل كـان قبـل العـرش أو هـو بعـده | قــولان عند أبي العــلا الهمذانـي |
والحـــق أن العـــرش قبــل لأنـه | وقـــت الكتابـــة كــان ذا أركـان |
ثم نقول: العرش لا يقدر قدره إلا الله، وقد ذكرنا أن الكرسي كالمرقاة بين يدي العرش، والله قد ذكر عظمة الكرسي، قال تعالى: رسم>
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قرآن> رسم> [البقرة: 255]. آية> إذا كان الكرسي وسع السماوات مع كبرها وضخامتها؟ والأرض مع عظمها، وكما ورد في بعض الآثار أو الأحاديث: رسم> ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس رسم>
والترس هو المجن الذي يكون على الرأس، فهذه الدراهم السبعة ماذا تشغل من الترس؟
كما ورد أيضا أن الكرسي حقير صغير بالنسبة إلى العرش، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، الحلقة هي القطعة من الحديد، نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فإذا كانت هذه عظمة السماوات لا نحيط بها، وعظمة الأرض التي نحن عليها، وهناك أراض أخرى، سبع أراضين لا ندري ما سعتها وما فيها، ومع ذلك هذه السماوات، وهذه الأراضون صغيرة بالنسبة إلى العرش، وهذا الكرسي الذي هذه عظمته صغير بالنسبة إلى العرش.
فكيف مع ذلك يحاط بالخالق سبحانه وتعالى؟
الحاصل: أن الذين قالوا: إن العرش بمعنى الملك قولهم خاطىء، قد أبطلوا هذه النصوص الكثيرة من القرآن، ومن الأحاديث، وردوا ما هو شبه التواتر عن السلف، عندئذ بطل التأويلان: تأويلهم: استوى بمعنى استولى، وتأويلهم للعرش بمعنى الملك، فما بقي إلا قول أهل السنة.
وإذا قلنا: إن استوى بمعنى ارتفع أو بمعنى علا أو بمعنى استقر، فإننا نتوقف عن الكيفية، نقول: الله أعلم بكيفية ذلك، كما في عقيدة الكلوذاني اسم> في قوله:
قالوا: فتزعم أن على العرش استوى | قلـت: الصـواب كـذاك أخـبر سـيدي |
قـالوا فمــا معنى استوائه قل لنا؟ | فــأجبتهم هـذا ســؤال المعتـدي!! |
يعني: أننا لا نعلم كيفية الاستواء ولا ماهيته بل نفوض ذلك إلى الله رأس> وليس معناه أننا لا ندري ما معنى الكلمة، بل الكلمة واضحة الدلالة، وهو معنى ما نقل عن مالك بن أنس اسم> -رحمه الله- أنه دخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله: رسم>
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى قرآن> رسم> [طه: 5]. آية> كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، أي: العرق، ثم رفع رأسه، وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا، ثم أمر به فأخرج.
وهذا الجواب فد نقل أيضا عن شيخه: ربيعة بن أبي عبد الرحمن اسم> أنه قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البيان، وعلينا التسليم، ونقل نحو هذا أيضا عن أم سلمة اسم> أم المؤمنين -رضي الله عنها- موقوفا عليها؛ أنها قالت: الاستواء معلوم والكيف مجهول، إلى آخره، ورفعه بعضهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح رفعه.
ومعنى قوله: الاستواء معلوم: أنه مفهوم تعرفه العرب، والمعلوم يفسر ويترجم من لغة إلى لغة، ولكن له كيفية، وتلك الكيفية هي الشيء المجهول الذي لا ندري ما كيفيته، فنتوقف فيها، فالاستواء كيفيته مجهولة لنا، ولذلك كان السلف -رحمهم الله- يفوضون الكيفية مع علمهم بالمعنى، ويفوضون أيضا الكنه، وكنه الشيء يعني: حقيقته وماهيته، هذا الذي كانوا يفوضونه.
فالاستواء له كيفية ولكنها مجهولة لنا، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ والإيمان بما تضمنته هذه الآيات واجب؛ لأنها صريحة، ففي سورة الأعراف، قال تعالى: رسم>
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> [الأعراف: 54]. آية> كلمة ثم تقتضي التعقيب، فدل ذلك على أن الاستواء كان بعد خلق السماوات والأرض، رسم>
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قرآن> رسم> [الأعراف: 54]. آية> فصرح بأن الاستواء كان بعد الخلق.
ومثله أيضا في سورة يونس: رسم>
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قرآن> رسم> [يونس: 3]. آية>
فصرح بالاستواء بعد خلق السماوات والأرض.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة الرعد: رسم>
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ قرآن> رسم> [الرعد: 2]. آية> فأخبر بأنه استوى بعد رفع السماوات والأرض.
أما آية طه، فقد تأولها بعضهم تأويلات بعيدة، حتى حملها بعضهم على ما بعدها رسم>
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ قرآن> رسم> [طه:5، 6]. آية> فقالوا: رسم>
اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ قرآن> رسم> يعني: استقر له ما في السماوات أو استتب له ما في السماوات، حملوها على ما بعدها.
والجواب: أولا: هذا الحمل ضعيف وذلك لأنها رأس آية، ومعلوم أنه يوقف على رؤوس الآي.
وجواب ثان: أن أول الآية رد عليهم، فإن قوله: رسم>
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ قرآن> رسم> وهم ينكرون أن يكون على العرش.
وجواب ثالث: وهو أن الاستواء ليس بمعنى ما يقولون: استوى له ما في السماوات، يعني: استتب، وأما آية سورة الفرقان، وهي قول الله تعالى: رسم>
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا قرآن> رسم> [الفرقان: 55-59]. آية>
قوله: رسم>
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا قرآن> رسم> صريح في أن الاستواء عقب خلق السماوات والاستيلاء متقدم، وكذلك آية سورة السجدة، وهي قوله تعالى: رسم>
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ قرآن> رسم> [السجدة: 4]. آية> فهذا أيضا صريح في أن الاستواء معطوف بثم التي تقتضي التعقيب.
كذلك آية الحديد رسم>
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا قرآن> رسم> [الحديد: 4]. آية> الآية.
صريح في أن الاستواء معطوف بثم.
من هذه الآيات نأخذ أن الاستواء صريح في هذه الآيات بمعنى العلو والارتفاع، ولكن لا يفهم أن الله تعالى محتاج إلى العرش، وأن العرش قد حمل الرب تعالى، بل الله ذكر أنه استوى على العرش، لكن لا نقول: إنه حمله العرش واستقل به، أو أن السماوات حملته واستقلت به، تعالى الله عن ذلك، بل نقول: هو كما يشاء فوق عباده مستو على عرشه، وهو أيضا قريب مجيب مطلع، عالم بما تخفيه النفوس وما تكنه الضمائر، فما ذكر من علوه وفوقيته لا ينافي ما ذكر من قربه ومعيته، كما سيأتي في هذه العقيدة من الجمع بينهما.
ومن ذلك نعلم أنه لا عبرة بتأويلات المتكلمين لآيات الصفات، بل هي واضحة، ولما كانت واضحة أخذوا يذكرون تقديرات، ومن أوسع من ذكر تلك التقديرات العقلية الباطلة التي هي نحاتة أفكار وزبالة أذهان: صاحب التفسير الكبير المسمى بـ أنوار التنزيل لابن الخطيب الرازي، فإنه لما أتى على هذه الآية من سورة الأعراف، أخذ يذكر فيها تقديرات عقلية بعيدة عن الصواب كأن يقول مثلا: إذا كان الله فوق العرش لزم أن يكون كذا وكذا، وأكثر من هذه التقديرات الباطلة.
نقول لهم: توقفوا عن الخوض، ونقول: الله أعلم بمراده، والله أعلم بكيفية ذلك، ولا نخوض فوق ما أعلمنا الله، كما نقول: إن آيات الاستواء على ما أراد الله، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة>
-38-