موقع سماحة الشيخ بن جبرين-رحمه الله..
الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة
الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة
عدد المشاهدات
()
تمكن في قلوب الكثير اعتقاد أن زيارة القبر النبوي مع الحج حتم وفرض من الفروض الواجبة ، رأس> وأن من لم يزره فقد أخل بما يلزمه ، فتراهم لذلك يتجشمون المشاق ، ويحثون السير إلى المدينة المنورة اسم> وما يقوم بقلوبهم إلا استحضار القبر وتقديسه ، واعتقاد أن المسجد ما اكتسب الفضيلة، ولا حاز أجر المضاعفة إلا حيث ضمّ ذلك القبر الشريف.
وأنا أقول: إن هذا الاعتقاد خطأ محض، رغم كثرة من وقع فيه من الأوائل والأواخر، منخدعين بشبه أحاديث مشتهرة على الألسن، قد رواها بالسند بعض من لم يلتزم التثبت : كالطيالسي اسم> والدارقطني اسم> محيلين القرَّاء على السند، فعندما نظرها النقاد بعين البصيرة بينوا ضعفها أو وضعها عقلا ونقلا.
وأشهرها عند العامة ما ورد بلفظ: رسم>
من حج ولم يزرني فقد جفاني متن_ح> رسم> .
وقد أجمعت الأمة على عدم وجوب الزيارة مع كل حج، ولو صح هذا اللفظ لكان تركها كفرا، لما فيه من جفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد اتفقوا على ترك العمل بظاهر هذا الحديث، مما يبين أنه موضوع.
ومنها حديث: رسم> من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي رسم> ومعلوم أن زائره في الحياة يحظى بفضيلة الصحبة، ويتلقى عنه العلم والأحكام مباشرة، مما لا يحصل لزائر قبره -صلى الله عليه وسلم- فبطل ظاهر الحديث أيضا.
ومنها ما روي بلفظ: رسم> من زار قبري وجبت له شفاعتي رسم> .
مع أن شفاعته -صلى الله عليه وسلم- إنَّما ينالها أهل التوحيد الخالص، كما ثبت ذلك بالسنة الصحيحة.
وليس منه تعظيم القبر بشد الرحل إليه، وجعله مقصدا ومطلبا؛ بل يكون شركا خفيا أو جليا، لما يصحبه من التعظيم الذي يظهر أثره في التذلل والخضوع، وهذا خالص حق الله تعالى، وهذا ما يحصل بكثرة من جُل أولئك الزوار، الذين يقفون أمام القبور بالمسجد وبالشهداء وبالبقيع اسم> فتراهم هناك مهطعين مقنعي رؤوسهم، تغاشهم الذلة والهيبة، وقد وضعوا الأيدي على الصدور أو رفعوها داعين مبتهلين بخشوع وهيبة، واستكانة لا يحصل بعضها في صلاتهم بين يدي ربهم تعالى.
وقد يطيل أحدهم القيام، وربما غاب عن نفسه فلا يحس بضرب ولا تأنيب، وأكثرهم يتوجهون إلى ناحية القبر حالة الجلوس أو الدعاء أو قراءة الأوراد، مفضلين له على القبلة وهم في تلك الحال، متصفون بالسكينة والخشوع والإخبات، والكثير منهم أو من الملقنين لهم يتسترون خوفا من إنكار البعض عليهم، فعند انفرادهم تظهر مخبآت الصدور، وقد يغلب الكثير منهم بعض ما يجدون، فيبوح بما في ضميره ولو رآه، أو سمعه الجمهور، وكثيرا ما تبدر منهم كلمات تنافي أصل التوحيد أو كماله : كوصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بعض أهل بيته بما لا يستحقه إلا الله من سعة الملك، والتصرف في الكون، والإعطاء والمنع، والضر والنفع.. إلخ ، وأقل ذلك ملك الشفاعة بدون إذن الله ورضاه.
وبموجب هذا الاعتقاد يدعونه -صلى الله عليه وسلم- ويسألونه ما لا يملكه إلا الله، ويعتمدون عليه، وتصدر منهم أفعال كهذه الأقوال، تدل على التعظيم واعتقاد التأثير، فتراهم يهتبلون غفلة الحراس ، أو يدفعون لهم نقودا ليتمسحوا بالباب والأستار والحيطان والمنبر ونحوها، وكثيرا ما يطوفون بالحجرة كالطواف بالبيت العتيق اسم> وأضعاف هذه الأفعال والأقوال التي لا تصدر إلا عن اعتقاد في تلك الستور والحيطان.
وقد دفعهم إلى هذه الزيارات وما ينتج عنها ما يتناقل بينهم كثيرا من حكايات واهية، وأخبار ضعيفة، أو مكذوبة، ومنامات أشبه بأضغاث الأحلام، ولكن راجت تلك الأمور على السذج وضعفاء البصائر، فتناقلوها وضمنوها مؤلفاتهم، وتداولتها الأيدي، وانتشرت واشتهرت على الألسن، حتى وقعت منهم موقعا، وتمكنت في النفوس، توارثها الأجيال من غير نكير، واعتقدوها الحق وسواها باطل وضلال.
ومن أشهر وأقدم تلك المؤلفات كتاب: شفاء السقام في زيارة خير الأنام للتقي السبكي اسم> الذي اشتهر وأقبل عليه الجم الغفير قراءة وعملا وتطبيقا، ولم يعلموا أن أحاديثه وأدلته كلها واهية موضوعة، لا تصلح مستندا، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد الهادي اسم> في رده الذي سماه: الصارم المنكي في الرد على السبكي اسم> .
ومن المؤلفات الباطلة أيضا في هذا الباب كتاب: الدر المنظم في زيارة القبر المعظم لابن حجر المكي اسم> حيث ذكر فيه من الحكايات ، والمنامات والأباطيل ما تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، ومع ذلك تجد لها آذانا صاغية، تتقبلها وتروجها وتحبذ العمل بها، فيعظم الشر والضرر.
ولقد تصدى للدفاع عن هذه الأباطيل بعض المتأخرين الزائفين، أمثال النبهاني اسم> والحداد اسم> والزهاوي اسم> ودحلان اسم> وابن جرجيس اسم> وأضرابهم الذين كتبوا وتكلموا بكل جراءة، داعين إلى هذه الزيارة والأفعال الشركية معها، ومتهمين كل من نهى عنها ببغض الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنقصه.. وما إلى ذلك.
وكأن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما تتجلَّى بدعائه والتوسل بذاته، والخضوع والذل أمام قبره الشريف ، وشبه ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، ومما قد نهى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام ، وعما هو دونه، ككونه خير البرية، أو تسميته سيدا، وقول: ما شاء الله وشئت.
ولم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أشد الناس له محبة وتعظيما هم صحابته رضي الله عنهم، ولم يكونوا يعاملونه بشيء من ذلك، حتى كانوا لا يقومون له إذا أقبل، لعلمهم بكراهته لذلك.
ولقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- رسم>
أنه لا يؤمن أحد حتى يكون نبيه أحب إليه من ولده ووالده، ونفسه، وماله، والناس أجمعين متن_ح> رسم> ولكن هذه المحبة تتمثل في طاعته واتباعه، وتقليده في أفعاله، والتقيد بسنته، والتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ في كل وقت وحال، لا في الغلو فيه وإطرائه الذي قد نهى عنه، وقال: رسم>
إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله متن_ح> رسم> وقال لقوم دعوه بالسيادة والفضل: رسم>
قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، أنا محمد اسم> عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله متن_ح> رسم> رواه النسائي اسم> آية> .
بقي أن يُقال: لعل الكثير من هؤلاء الزوار قصدوا المسجد النبوي اسم> الذي ورد الإذن في شد الرحل إليه، لمزيته ومضاعفة الصلاة فيه.
والجواب: أن هذا القصد مباح، ولعله مراد من ذكر الزيارة من العلماء الأجلاء في مؤلفاتهم، حيث ذكروا أنه يبدأ بالمسجد فيصلي فيه، ثم يزور القبور والبقيع والشهداء، الزيارة الشرعية المدونة في دواوين أهل السنة، ولكن مع ذلك فإن المقام بمكة اسم> أفضل وأولى لمن هذا قصده، فإنها خير بقاع الأرض، والصلاة في المسجد الحرام اسم> تعدل مائة صلاة بمسجد المدينة اسم> وكما في قصة الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى اسم> فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم>
صَلِّ هاهنا متن_ح> رسم> وذلك حرصا منه على مضاعفة العمل.
ثم إنَّا لا نمنع السفر إلى المدينة النبوية اسم> أو غيرها من البلاد، لا لقصد بقعة معينة لاعتقاد مزية فيها، وإنما لقصد السير في الأرض للاعتبار، والتذكر لأحوال الأمم والأجيال الماضية، فإن ذلك مما يدخل في أمر الله تعالى في قوله: رسم>
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ قرآن> رسم> (سورة النحل ، الآية:69) آية> رسم>
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ قرآن> رسم> (سورة محمد ، الآية:10) آية> .
وهكذا السفر إلى المدينة اسم> أو غيرها أيضا للتعلم أو التعليم، فذلك مما يجب عينا، أو كفاية على الأمة، ولا يدخل تحت النهي عن شد الرحال الذي يقصد منه السفر لتعظيم بقعة بعينها، والاعتقاد فيها الذي يؤول إلى تعظيمها بما لا يحل شرعا.
وأخيرا: ننصح إخوتنا المسلمين عن تلك الأفعال، والاعتقادات الخاطئة التي يقعون فيها عن تقليد أو عن حسن ظن، مع أنها تقدح في العقيدة، وتنافي أصل التوحيد أو كماله ، ونهيب بهم أن يتعلموا ما يجب عليهم من حق الله، وعبادته وحده، وسيجدون أعذب مورد ينهلون منه عن قناعة ورضى، ألا وهو كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحريص على نجاة أمته، حشرنا الله في زمرته، وجعلنا من أتباع ملته، والله أعلم، وصلى الله على محمد اسم> وآله وصحبه وسلم.
مسألة>
-46-