الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- نعم رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضا للناس في عرصات القيامة كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب
وقال صلى الله عليه وسلم:
جنان الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة وآنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن
.
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة
.
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح قد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا وكلاهما باطل، وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا -وهم ضلال كما تقدم- فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص إما بعض الصالحين أو بعض المردان أو بعض الملوك أو غيرهم عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى ابن مريم بل هم أضل من أتباع الدجال الذين يكون في آخر الزمان، ويقول للناس: أنا ربكم. ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها.
وهذا هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وقال: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال
وقال:
إذا جلس أحدكم في الصلاة فليستعذ بالله من أربع؛ ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال
فهذا ادعى الربوبية، وأتى بشبهات فتن بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت
فذكر لهم علامتين ظاهرتين يعرفهما جميع الناس، لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيجوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك.
وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية، وهم صنفان: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء كما يقوله النصارى في المسيح -عليه السلام- والغالية في علي -رضي الله عنه- ونحوه، وقوم في أنواع من المشايخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر من مقالة النصارى.
وصنف يعممون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها، كما يقول ذلك قوم من الجهمية ومن تبعهم من الاتحادية كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني والبلياني وغيرهم.
ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده وهم فقراء إليه، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أين ما كانوا كما قال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
.
فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدميا إما شيخا أو صبيا أو غير ذلك ويزعم أنه كلمهم يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وأنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا إنه اتخذ ولدا، حتى قال: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا
فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟
هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليا -رضي الله عنه- أو غيره من أهل البيت هو الله، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي -رضي الله عنه- بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة -رضي الله عنهم- على قتلهم، لكن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء.